الراحل البروفيسور عبد الله حمدنا الله: أم درمان ليست جميلة ولكنها جليلة

عقاد السودان الراحل البروفيسور عبد الله حمدنا الله:
أم درمان ليست جميلة ولكنها جليلة
أحارب العقلية الماضوية وأعتقد أن مستقبل الأجيال أفضل من ماضيها
أغنية الحقيبة حسية قاست المرأة بالشبر ووزنتها بالرطل
الأمة الآن تعاني المخاض الأليم ليأتي بعدها الفرج العظيم.
مالك بن نبي ونزار قباني وأم كلثوم كانوا يجدون ذاتهم في الخرطوم
كان يمكن لخالد فتح الرحمن أن يكون شاعر السودان الأول ولكنه لم يكن وفيًا للشعر
شجعت الهلال وكنت أصلي خلف جكسا
أجرى الحوار: عبد العزيز عبد الوهاب
البروفيسور عبد الله حمدنا الله عالم نحرير وباحث فذ وعقّاد السودان كما كان ينادى في المدرسة الوسطى. عمل فور تخرجه في وزارة الشؤون الدينية ثم رئيسا لمجلس الهيئة القومية للثقافة والفنون ورئيسا للجنة الاستشارية للبرامج الثقافية بالتلفزيون وفي بعض المؤسسات الثقافية والاجتماعية. سألته لماذا تهاجم أم درمان؟ فأجاب بمحبة ومحنة: أعطتني أم درمان من نفسها أفضل ما عندها فخرجنا منها كما نحن الآن، فقد كانت نشطة بالمناشط الثقافية. وأضاف: أم درمان ليست مدينة جميلة ولكنها مدينة جليلة. إننا في أم درمان لا نشعر بالراحة النفسية ولكننا نشعر بالشعر والعظمة وهذا هو الجلال بعينه.
هذا، وللرجل ذكريات وخواطر وإضافات (ندوة العقاد والجامعة الإسلامية .. حقيبة الفن وجكسا….). عبد الله حمدنا الله غزارة في الإنتاج تعزز الإقناع. إنها سانحة عظيمة لجيل اليوم ليقف على: إضاءات من عقل البروفيسور عبد الله حمدنا الله وتجربته الممتدة، عبر هذا الحوار الذي أجريته معه (يرحمه الله) والذي نشر في صحيفة ظلال الثقافية الأسبوعية بتاريخ 1/10/1998. ونجدد نشره اليوم في صحيفة ألوان الإلكترونية، والذي يأتي ضمن سلسلتي: (حوارات ضد التآكل والنسيان).
بروف عبد الله .. الميلاد والنشأة؟
ولدت بقرية عديد البشاقرة بمحافظة الكاملين بشهادة تسنين حررت عام 1948م. درست الأولية في عديد البشاقرة والمتوسطة في التكينة (أهل أمي). ولدت في بيئة يميل فيها أهل أبي إلى الحزب الوطني الاتحادي وأهل أمي إلى الأنصار. وكانت أسر التكينة من الأسر ذات المكانة الخاصة لدى السيد عبد الرحمن المهدي. فنشأت في هذا الخليط وإن كنت لأهل أمي أقرب.
وعلى خلفية الصراع الأزلي بين الحزبين الطائفيين.. كيف تصالحت مع هذا التناقض في الإنتماء؟ داخل نفسك أولًا وداخل الأسرة التي تنتمي إليها ثانيا؟
لا يوجد صراع أصلا، لا في نفسي ولا في الأسرة، ويعود ذلك لأصالة أهل أبي وتمسكهم بالوطني الاتحادي، وأضرب لكل مثلا حين قرر الحزب الوطني الإتحادي ترشيح خضر حمد سكرتير الحزب حينئذ في دائرة المسيد، وقرر أحد أبناء الدائرة وهو العم مهدي العشا أن يترشح بوصفه اتحاديا ورفع شعار (المسيد ليست أم كدادة) في إشارة إلى ترشيح عبد الله خليل في أم كدادة وهو ليس من أبنائها. وفي مؤتمر الحزب الذي عقد لاختيار مرشح الحزب، وقفت أكثر اللجان مع خضر حمد لأنه مرشح الحزب ووقف قليل منها مع العشا لأنه رفض استيراد المرشحين من الخارج رغم أنه اتحادي صميم.
أما أهل أمي فلهم شخصيتهم المميزة التي انتهت ببعضهم ـ رغم تمسكهم بالأنصار ـ مثل خالي الشيخ محمد حامد التكينة إلى الإنضمام للجبهة الإسلامية والفوز بمقعد في آخر جمعية تأسيسية.
ماذا عن وهج السنوات الأولى لحياتك؟
** قرأت كتاب (الظلال) منجمًا وأنا ابن عشر سنوات وأيضا كتاب (بلاغة القرآن ومعجزة السنة) وكنت مهتما بالصحف، وأنا في ذلك مدين لجدي عبد الرحمن أفندي ولخالي المتخرج في معهد أم درمان العلمي الأستاذ محمد جادين.
وفي المدرسة يقال إنك كتت متفوقا؟
نعم. دخلت المتوسطة عام ١٩٥٩م وكانت لدينا جمعية أدبية قوية جدا ووجدت نفسي معروفا بين الطلبة. وكان يظن بعض الناس أنني أحفظ من الراديو مباشرة. خاصة محاكمة شنان ومحي الدين أحمد عبد الله وما تزال بعض الوقائع الخاصة بالمحاكمة في ذهني، وكانت تلك المرحلة تواكب فترة التحرر الوطني وكانت الأسماء الكبيرة، عبد الناصر ونكروما نهرو سيكتوري، تملأ الآذان وكنت أتحدث عنها في الجمعية الأدبية .. حتى أن بعض أساتذتنا من الشيوعيين توهموا أنني يمكن أن أكون منهم، و بدأوا في تجنيدنا بصورة غير مباشرة. وأذكر بالخير أستاذنا محمد عبد الرحمن الوسيلة قطب الحزب الشيوعي البارز ولكن لم يصب تجنيدهم لنا نجاحا.
هل يعني ذلك أنك كنت أنصاريا ملتزما؟
أحب الأنصار لكنني لم أكن أنصاريا.
أساتذة و زملاء لمعوا في حياتك؟
لابد أن أذكر أستاذي وشيخي وصديقي الشيخ محمد حامد التكينة ـ رحمه الله ـ الذي أثر على حياتي تأثيرا بالغا، و من زملاء الدراسة دكتور محمد الحسن محمد بابكر و هو أستاذ بكلية الطب بجامعة أفريقيا العالمية.
مواقف مدرسية في الذاكرة؟
بعض أساتذتنا في المتوسطة كانوا يطلقون علي لقب العقاد، لأنني كنت مولعا به وأتحدث عنه في الجمعية الأدبية. وكان العقاد وقتها له صيت وصدى. وقرأت له كثيرا من كتبه، إذ لدي منها في مكتبتي ١٠٦ كتاباً من كتبه البالغة ١١٦ كتابا.
وأين كانت المحطة التالية؟
درست الثانوي في أم درمان عام ١٩٦٣م قبيل ثورة أكتوبر وأعطتني أم درمان من نفسها أفضل ما عندها فخرجنا منها كما نحن الآن، فقد كانت نشطة بالمناشط الثقافية حيث المكتبة المركزية ونادي الخريجين والنادي الثقافي فأفدنا من ذلك كله.
وكيف كانت الخرطوم في تلك الأيام؟
أشعر أن سكان الخرطوم هم ذات السكان، التي عناها التجاني يوسف بشير: من الذين أسكرتهم خيرات بلادنا وعطاؤها المبذول في غير منٌ، فتعالى ابن أثينا واستكبر الأرمن أما أم درمان فهي على النقيض من ذلك.
ومن هم زملاء الثانوي؟
من الزملاء الشيخ جلال الدين المراد والسر النقر والشيخ جمعة سهل وأذكر شاموق بخير فقد عرفته بالثانوية ومازلت أذكره برحلاتنا معا حيث كان يكبرنا بمرحلة ويرشدنا نحو الطريق.
أي طريق؟
طريق العمل الإسلامي حيث كان الأستاذ شاموق من أبرز قيادات الأخوان في الجامعة وكانت فترة بعد أكتوبر فترة تمدد العمل العمل الإسلامي.
إضافة إلى السائد السياسي يومذاك، أود أن أسألك عن الحزب الجمهوري. وعن محمود محمد طه؟
كان له وجود من خلال المركز العام للحزب الجمهوري في شارع الموردة وكانت له محاضرة أسبوعية يقدمها محمود محمد طه وكان لهم وجود في الجامعات وكان لمحمود أتباع يومئذ مثل محيسي والسميت وغيرهم. لكن الفكر الذي كانوا يبشرون به تغلب عليه النزعة الباطنية فهو غير قابل للبقاء شأن الأفكار الباطنية جميعا.
وماذا عن الجامعة؟
** قبلت في معهد المعلمين العالي ـ كلية التربية جامعة الخرطوم ـ الآن ـ ومعهد أم درمان العلمي ولكن انتهى بي الأمر إلى كلية الآداب جامعة أم درمان الإسلامية ـ وكان فيها يومئذ جماعة من خيرة العلماء نذكر منهم الشيخ عبد الحليم محمود وعلي عبد الواحد وبنت الشاطئ ودكتور هدارة ودكتور عبد المجيد عابدين ومحمد المبارك والدكتور أحمد النجار. وكان يأتينا زائرا ودكتور أبو زهرة وغيره ولكن مايو لم تشأ أن يستمر عطاء هذه النخبة فقضت من أشهرها الأولى على الجامعة ولكن قبس أولئك أضاء الطريق في المنتديات الثقافية في الخرطوم.
وأذكر أنه عندما كان عبد الماجد حسبو وزيرا للثقافة والإعلام جاء بنخبة من مثقفي العالم العربي نذكر منهم المفكر مالك بن نبي الذي حضرنا جميع محاضراته ونزار قباني وأم كلثوم وكان المفكرون يجدون ذاتهم في الخرطوم.
وأقرأ ما كتبه نزار قباني عن تلك الزيارة: ” الشعر العربي (يتنفس ) برئتيه الخرطوم وبغداد ” .
وما قصة مايو مع الجامعة الإسلامية؟
كان الشيوعيون في مايو يظنون أن جامعة أم درمان الإسلامية وكر للإرهاب، وأنها حين تضرب فإن الحركة الإسلامية تكون قد أصيبت في مقتل، و قبل أن تتفرغ مايو إلى القرارات الكبيرة في أشهرها الأولى أصدرت قراراً بحل جامعة أم درمان الإسلامية وتحويلها إلى كلية للدراسات العربية والإسلامية.
ولكن بعد زوال التأثير الشيوعي في مايو أعيدت الجامعة من جديد.
وهل صحيح أنها كانت وقفا على طلاب الحركة الإسلامية؟
الجامعة يومئذ كان بها من كل الاتجاهات، بل أن غلاة الشيوعية فيها، كانوا أكثر تطرفا من الشيوعيين في جامعة الخرطوم و كان الحزب الجمهوري أيضا موجود وكنت أنا في مجلس الإتحاد الذي تلا قيام مايو مباشرة.
ومن تذكر من زملاء الجامعة؟
عاصرنا الشيخ عبد الجليل النذير الكاروري ودكتور القوصي وأحمد علي الإمام وتيتاوي.
وبعد التخرج؟
تخرجت عام 1972م بتقدير جيد جدا في قسم اللغة العربية، وتقدمت مع آخرين لأكون مساعد تدريس بالجامعة، والذي حزٌ في نفسي جداً، أن الجامعة اختارت من هو أقل مني درجة ومن خارج الجامعة، ولم يتم اختياري. وكانت الجامعة تعيش في حالة فوضى، ومن يومها قررت أن لا أتقدم إليها، ولتنظر بعدها من يكون أكثر وفاءً لرسالة الجامعة في المجتمع. وقد اجتهدت أن أؤدي بعض الدين لها وللمجتمع ولكن …
وأين رست سفينتك بعد هذا الموقف؟
رست في وزارة الشؤون الدينية وكان الدكتور عون الشريف قاسم وزيرا لها، وعهد إلي بتحرير مجلة البيان، وأختير الأستاذ أحمد البيلي رئيسا للتحرير، فأوكل لي الأمر تماما.
وبعد أن تقاعد للمعاش قمت بدور رئيس التحرير كاملا، دون أن يوضع اسمي على ديباجتها، لإعتقادهم بأنني تخرجت حديثا، وكانوا يريدون تسمية شخصية مرموقة رئيسا للتحرير.
هل كان هناك أي دور رقابي على الصحافة وقتها وفي مجلة البيان تحديدًا؟
** لم أر أي رقيب ولم يشر علي بترك حرف واحد مما رأيت نشره. وإن كان أحيانا يؤتى إلي من الوزارة بمواد للنشر قد لا تكون من صميم رسالة المجلة.
وأذكر أن الدكتور عون الشريف أشار مرة لقصيدة للدكتور الحبر يوسف عنوانها (لا صلاح لكافر) نشرت بالمجلة، والدكتور عون أديب لمٌاح، وربما رأى في بيت قمزًا للرئيس نميري يومها، فسألني رأيي؟ فقلت له إن دكتور الحبر يشير إلى بيت النميري الذي في الهامش رغم ما يجده الدكتور عون في نفسه من البيت وما أجده أنا أيضا في البيت، ولكن لم يحذف البيت ولم تحذف القصيدة.
كم مكثت في موقعك؟
في العام 77 سافرت لمصر في منحة لنيل الماجستير والدكتوراه. ونضر الله مصر، ورغم أنني كنت أقول إن الناس ذهبوا إليها في شبابهم فسرٌتهم، وأتيناها على الهرم. ورغم ذلك فقد وجدنا الفكر عامر والتحقنا بندوة العقاد، واذكر من حضورها الشاعر الفحل الكبير العوضي الوكيل ومحمد خليفة التونسي الذي يأتي من الكويت والحساني عبدالله. وإلتحقنا أيضا بندوة العلامة شيخ العربية المعاصر بلا منازع الشيخ محمود محمد شاكر وندوة زكي نجيب محمود، ورابطة الأدب الحديث، وكانت لنا صداقات نعتز بها مع الأدباء والمفكرين هناك.
ما موضوعك لرسالة الماجستير؟
كان عنوانه (المقال الصحفي في السودان منذ ظهور الصحافة السودانية إلى ظهور الصحافة اليومية). وقد بذلت فيه كثيرا من الوقت والجهد، وسعدت أن قابلت عددا من الشخصيات الذين أثروا الحركة الأدبية في السودان. ومكثت في دار الكتب المصرية زمنا طويلا أبحث وأنقب إلى أن أكرمني الله بسبق علمي حيث حصلت على صحيفة سودانية كانت تصدر في المهدية اسمها (السودان). أصدرها المعارضون للمهدية الفارون للقاهرة، ورئيس تحريرها محمود القباني والذي كانت إحدى أخواته زوجة للمهدي والأخرى زوجة للشيخ محمد شريف نور الدائم. ووجدت من الصحيفة 19 عددا، فعكفت عليها وكتبتها جميعا بكل ما فيها وهي الآن تحت يدي.
هل هي أول صحيفة سودانية؟
لا أجزم بذلك. ولذلك أفضل ذكر أول صحيفة سودانية تحت أيدينا. حيث أشار إبراهيم فوزي في كتابه (السودان بين غردون وكتشنر) إلى صحيفة يومية كانت تصدر في الخرطوم في عهد غردون لكننا لم نعثر عليها. وربما كانت عبارة عن منشورات تعلق على الحائط.
قدم لنا قراءة سريعة عن أحوال مصر الثقافية آنذاك؟
ذهبت إليها أيام كامب ديفيد ، ولذلك كانت في تحول من الحقبة الناصرية إلى الحقبة الساداتية.
الدكتوراه، ما كان موضوعها؟
حصلت على الماجستير بتقدير امتياز من جامعة الأزهر. وقدمت للدكتوراه وحصلت عليها بمرتبة الشرف الأولى. وكانت عن أثر الحركات الدينية في تطور الشعر في السودان. وأعتقد أن ذلك قدم لي فائدة كبيرة في الاتصال بالدراسات السودانية. وكونت لدي بما يجعلني أقول في ثقة (إن أكبر مكتبة للدراسات السودانية لدى الأفراد وفيها كتب ومخطوطات ووثائق ومقابلات شخصية نادرة جدا هي بين يدي الآن).
وماذا بعد انجازك العلمي ذلك؟
عملت أستاذا للأدب والنقد في جامعة إفريقيا العالمية وشاركت بقدر ما أستطيع في الحياة الفكرية في السودان، من خلال المحاضرات والمؤتمرات وأجهزة الإعلام. وعملت رئيسا لمجلس الهيئة القومية للثقافة والفنون ورئيسا للجنة الاستشارية للبرامج الثقافية بالتلفزيون وفي كثير من مجالس المؤسسات الثقافية والاجتماعية.
كيف تصور المشهد الثقافي وأنت بهذه الخبرات؟
أعتقد أن الثقافة الآن تصنع في الأطراف وخارج الأطر الحكومية، لأنني كما قلت مرة إن وزارة المالية تفكر بعقلية (شيوعية) وإن كان على رأسها إسلامي. لأنها تؤمن إيمانا قاطعا بأن الجنيه الذي لا ينتهي إلى لقمة الخبز لا فائدة فيه.
وأن الثقافة ترف في مجتمع جائع ولذلك فإن القائمين بأمرها ليسو على استعداد للصرف عليها. وفات عليهم أن الثقافة استثمار اقتصادي شأنها شأن التعليم والصحة.
وكان نتيجة هذا أن اختفى العمل الثقافي أو كاد وتحول النشاط إلى ترف يقوم به المبدعون دون تدخل من الحكومة، وأحيانا بعيدا عن أعينها. وقلّ التواصل الثقافي بين مثقفي السودان وغيرهم في الخارج وهذا أمر يؤسف له.
وماذا عن حال الصحافة السودانية؟
الأمر الذي يسر في الصحافة هو عودة الملكية الخاصة، وإن كان الملاحظ عموما أن الأداء الصحفي ليس بالجودة المرجوة من وسيلة هي من أخطر وسائل حركة التنوير. والملاحظ أيضا عشوائية بعض الإصدارات وعدم تأهيل الصحافيين وعدم وضوح الرسالة الصحفية وعدم الاستقرار النفسي للعاملين في الصحف مما ينعكس سلبا على الأداء وتجويده. والمأمول أن ترتفع الصحافة السودانية وأن تبتعد عن المهاترات وعن التبعية لأي جهة كانت لتؤدي رسالتها.
وما رأيك في التعليم العالي؟
أولا كان لابد من التوسع في التعليم العالي، لكن التوسع صاحبته إشكالات تمثلت في عدم وجود الأستاذ الكفؤ وعدم وجود الكتاب والأجهزة المعينة. وفي عدم القدرة الإدارية لدى كثير من العاملين في الجامعات، وفي ضعف مرتبات الأساتذة مما تسبب في جعل المهنة طاردة. لكن أعتقد أنه الآن وصل إلى نوع من الاستقرار يمكن معه معالجة السلبيات التي صاحبت التوسع الذي كان ضروريًا.
يرى مراقبون أن هناك تراجعا لدى بعض الأساتذة الجامعيين؟
ألاحظ ضعفا لدى بعض طلاب الدراسات العليا. لكن عموما أنا مع الأجيال دائما. ودائما ما أحارب العقلية الماضوية. وأعتقد أن مستقبل الأجيال أفضل من ماضيها. وأرى في الذين يمارسون العقلية الماضوية نوعا من الإرهاب الفكري والثقافي على الشباب ولذلك لست متشائما.
هناك خلل في العملية التربوية .. حتى بتنا كمن يصرف فيما لاحاجة له، أخشى أن يقال إننا أمة (مجوبكة)؟
التعليم حاجة إنسانية ولا أرى ربطها بالعمل على الإطلاق، فالإنسان يتعلم ليكون إنسانا. أما أن يعمل في وظيفة أو لا، فهذا أمر آخر. لكن بالطبع هذا لا يناقض أن تخطط الدولة لحاجياتها، لأنه لا يتقدم مجتمع إذا كان لديه خلل أو نقص في حاجاته الفكرية والمهنية ومن ثم فرأيي هو إتاحة التعليم لكل إنسان دون قيد، إلا قيد القدرة عليه وفي داخل ذلك يكون التخطيط.
دكتور عبد الله .. ما مشكلتك مع أم درمان؟. سمعنا أنك تقول إنها مدينة مصنوعة؟
أنا أحب أم درمان جداً والرأي الذي قلته فيها، فيه إنصاف لها وإعلاء لقيمتها. لكن لاشك في أن الذين غضبوا منه قد قرأواه من زاوية بعيدة. ومن خلال لقاءاتي مع بعضهم اتضح لي أنهم لم يقرأوه. ولكنني أريد أن أجعل أم درمان قلعة ثقافة. وهم يريدونها قطعة جغرافيا. المشكلة الأساسية في أن بعض أبناء أم درمان يريدون أن يطلقوا بعض المفاهيم عن أم درمان ليست صحيحة.
كيف هذا ومثل ماذا؟
قابلت على سبيل المثال شخصا قدم في أجهزة الإعلام برنامجا عن أم درمان، وذكر أنها مدينة جميلة، فقلت له أين جمالها؟ فقال: النيل، فقلت له إن النيل يجري من فكتوريا إلى الإسكندرية، فما الفرق بين مجراه في أم درمان وبين مجراه الطويل.
إذا كيف تراها بعيونك؟
أم درمان ليست مدينة جميلة ولكنها مدينة جليلة. إننا في أم درمان لا نشعر بالراحة النفسية ولكننا نشعر بالشعر والعظمة وهذا هو الجلال بعينه.
آمل أن ترضي شهادتك مغاضبيك؟
من المفاهيم الخاطئة يقولون: إن أم درمان مدينة عريقة، فأقول هي عرق لمن؟ أم درمان ليست عرقا للسودان، فهي مدينة حديثة جدا، ولكنها ثمرة شكلها السودانيون، هذه هي مشكلتي مع أم درمان التي أحبها والتي أريد أن أجعل نفسي جزءا منها بوصفها ساهمت في تنشئتي الثقافية ولكن بعض أهلها يريدونها لهم دون سواهم ولا أسلم لهم بذلك أبدا.
هل يعني ذلك أنك أراف بها من الدكتور الشاعر محمد الواثق الذي هجا أم درمان؟
لا أعتقد أن الواثق في ديوانه (أم درمان تحتضر) يكره أم درمان أيضا، فأم درمان عنده رمز وليست مدينة محدودة. فهو يجعلها في مقابل (مونيك) التي تمثل الحياة الفرنسية الغربية. إذًا أم درمان هي رمز لهذه الأرض التي باعت نفسها وكشفت عورتها ويريد الواثق أن يوقظها في عنف، وأن تقف في شموخ وعزة.
كأنك تريد أن تلغي تاريخا طويلا من قدسية حقيبة الفن؟
أرفض من الحقيبة أن يمد في عمرها الإفتراضي فهي حققت المتع النفسية والقيم الاجتماعية في زمنها. لكن محاولة أن يمتد بها أكثر من وقتها وأن تكون هي أفضل الغناء السوداني حتى اليوم، فهذا ما أرفضه تماما. فنحن بهذا نصادر حياة الأجيال حين نتمسك بظاهرة مؤقتة في حياة السودان، ونحاول أن نجعلها ظاهرة لكل الأجيال. وأرفض أيضا بعض المقولات التي تقال عن الحقيبة. مثلا ليست الحقيبة هي أغنية العفة في وقتها بل كان ينظر إلى فنانيها باعتبارهم صعاليك وصياع. ثم هي أغنية حسية قاست المرأة بالشبر ووزنتها بالرطل. وجمالياتها الأدبية ضعيفة جدا. وإذا كانت تناسب مرحلة معينة فلا أعتقد أنها تناسب أذواق اليوم.
دكتور عبد الله، هل لك أي ميول رياضية؟
نشأت وأنا أشجع الهلال وفي المرحلة الثانوية كنت أذهب لنادي الهلال لأصلي خلف جكسا. لكن واقع الأمر أنه منذ أن تركت المرحلة الثانوية لم أعد أشجع فريقا وليس لي كبير علم بالكرة ولم أعد أفرق بين إبراهومة وأنس إلا من خلال مناقشات أبنائي في المنزل.
وماذا تفعل الآن؟
ذهبت إلى تشاد من غير تخطيط سابق، وربما كان هواي إلى غيرها. ولكن بعد استشارة شيخي وخالي محمد حامد التكينة رحمه الله ذهبت إليها، وفيها وجدت ما يتصل بالدراسات السودانية كثيراَ ما كان غائباَ عنا، وفيها قد أفدت على نحو ما كتبت في بعض الصحف. والشعب التشادي نحبه ويحبنا ونشبهه ويشبهنا. ويمكن أن يكون مدخلنا إلى غرب أفريقيا وثقافتنا فيه متمكنة وأصلية لأنها ذات ثقافتهم. فقط مطلوب منا أن نلتفت إليهم أكثر وأن نتعرف عليهم أكثر، فمن من السودانيين اليوم يعرف مفكراََ تشادياََ؟ أعتقد أن هذا عيب.
ما رسالتك لحكومة الإنقاذ؟
من لي بأمة خرساء أن نطقت
ألفيت شمل بنيها مجتمعا
أواه إني أكاد أحس الغيظ يفجعني
من أمة لا تحس الضيم والوجعا.
ورسالة خاصة لمصر؟
أعتقد أنه مهما كانت الصعاب ومهما كان ما نراه اليوم من جنادل وصخور في مجرى العلاقات السودانية المصرية.. فإن هذا المجرى لابد أن ينساب نحو مصبه في علاقاتٍ أفضل، وأعتقد جازماََ لا مصر وحدها ولا السودان لوحده يستطيع أن يبلغ ما يريد إلا أن يكونا معاَ.
وللأمة العربية في قضاياها الجراح.. وجراحاتها القضايا؟
كتبت موضوعًا في جريدة (الشاهد الدولي) عنوانه قول نزار قباني: وجدت العروبة لكن ما وجدت العرب. إنما أعتقد أن الأمة العربية لابد أن يكون لها مكان تحت الشمس. إن حتمية الميلاد لا تغني عن آلام المخاض، فالأمة الآن تعاني المخاض الأليم ليأتي بعدها الفرج العظيم. عصر الأمة العربية في حركة التاريخ.
*المرأة السودانية. نريد تحليلا تقويميا لمجمل حياتها، بما يجعلها ترفع رأسها ورأسنا؟
أقول لها عبٌري عن نفسك بصفتك إنساناَ ولا تعبٌري عن نفسك دائما بوصفك أنثى.
وما رسالتك إلى الجامعة الاسلامية؟
أقول لها ما قال التجاني:
يا معهدي ومحط عهد صباي
من دار تطرق من شباب نابه
قسم البقاء إليك من أقداره
من شاد مجدك في قديم كتابه.
وأين تجد نفسك في الشعر أم في النثر؟
أمارس الشعر أحيانا وأنكره، وأتذكر دائما مقولة طه حسين: إن شعر العقاد الناقد أفسد علينا شعر العقاد الشاعر فأمزق ما أكتب.
وماذا تكتب أو تقرأ الآن؟
سئل الشاعر العربي القديم يوما ماذا يأكل فقال:
قالوا اقترح طعاما نجد لك طبخه
قلت أطبخوا لي جبة وقميصا، وأنا الآن أقرأ منزلا وأكتب منزلا.
أخشى أن نفقدك شاعرا وناقدا .. ولا نجدك إلّا “زول سوق” يا دكتور .. وما هواياتك؟
أحيانًا أمارس بعض ضروب الرياضة الآن في النادي السوداني بإنجمينا وأمارس شبه يوميا لعبة تنس الطاولة وهوايتي المشي فأنا أمشي المسافات الطوال.
ومن هو شاعر السودان الذي يستحق رايته؟
كنت أعتقد أن خالد فتح الرحمن هو شاعر السودان اليوم وفي السنوات القادمة لكن أعتقد أنه لم يعد وفيا للشعر وليته إلتفت اليه.
وماذا عن أسرتك الصغيرة؟
متزوج من عفاف عبد الجبار من الكاملين، أستاذة في التربية والتعليم ولي من الأبناء محمد بالهندسة المدنية جامعة السودان، متوكل بالثانوية، عمر بمرحلة الأساس وآمنة دخلت هذا العام مرحلة الأساس.