الغزالي صاحب إحياء علوم الدين يلقي محاضرة في آداب وفنون المائدة
ولألوان كلمة
حسين خوجلي
الغزالي صاحب إحياء علوم الدين يلقي محاضرة في آداب وفنون المائدة
من الملاحظات التي استوقفتني كثيراً في التسفار والرحلات والطائرات والفنادق والمآدب الرسمية فن الذوق والإتكيت التي تضبط بها المائدة على الطريقة الغربية، وضع الأطباق ومعينات الأكل الشوكة والسكين والملعقة وطريقة الأكل والشرب والإهتمام بأمكنة وضع الطعام والشراب على المنضدة وأي خروج على هذه العادات والتقاليد التي إتخذناها عن الفرنجة تجعل الآخرين ينظرون إليك في دهشة وحذر واستنكار.
ومما تعلمناه من أخلاق البداوة الأولى أننا حين نشرب الشاي الصباحي (بالزلابية) أو نحتسي الشوربة بالمذاق السوداني وتطربنا الرشفات الطاعمة كنا نحدث معها صوتاً وهي عادة شهيرة عند السودانيين. وقد دعيت إلى مأدبة حضرها الكثير من الفرنجة والمتفرنجين من أبناء جلدتي بفندق هيلتون عندما كان في عزه ورونقه القديم. وقد أعجبتي شوربة الطماطم المحلاة بالبهارات فأحدثت صوتاً عالياً بالإرتشاف علامة على طلاوة المذاق، وللمذاق عند السودانيين عين ولسان، إلا أن النظرات من الفرنجة والمتفرنجين جعلتني أعاود الإمتصاص ما أمكنني فأصبحت من يومها أبحث عن فن الذوق والإتكيت عند العرب والمسلمين خاصة عند موائد الخاصة وأيام العز في التحضر في الزمان العباسي الأول والثاني. ومن ما وجدته في كراستي القديمة أتتني من بقايا مكتبتي بالسودان وصايا للإمام الغزالي صاحب الاحياء وهو يعدد في شفافية وتحضر وتمدن رغم زهده في آداب المآدب والطعام فلم أقرأ مثلها أدباً وإحاطة وذوقاً، فإذا قرأتموها وأتى زمان الطعام في السودان بعد بليلة المباشر فأرجو أن تنال منكم التطبيق والتصفيق يقول الإمام الغزالي قدس الله سره
1 – غسل اليد قبله وبعده والمسح بالمنديل.
2 ـ المرزامة (تجويد المضغ).
3 – عدم النفخ في الطعام الحار.
4 – لا يجمع بين الطعام وثفله ونواه في إناء واحد (وهذا يعني أنك إذا استخلصت اللحم من العظم فلا تضعه في إناءه الذي تأكل منه فإذا أكلت التمر فلا تجعل نواته في إناءه والسودانيون مشهورين بالقرمشة وهي عادة في سحن العِظام الرقيقة بالأسنان وامتصاص ريقها ووضع نفايته على الإناء).
5 – لا يكثر الشراب أثناء الطعام.
6 – ينظر في الكوز قبل الشرب ولا يتجشأ أو يتنفس فيه.
7 – لا يبتلع ما يخرج من أسنانه بالتخلل إلا ما أخرجه بلسانه.
8 – لا يقوم من المائدة حتى ترفع (وبعض الحمقى يقومون من المائدة ويتركون ضيوفهم فيستحي الضيف وينهض وإن لم يشبع).
9 – الحديث عن المائدة وكراهية السكوت (ومنها أخذ المتقدمون الدعوات التي تسمى بالوجبات فيقولون غداء عمل أو عشاء عمل).
10 – عدم الالحاح على الآخر بالأكل، وعلى الآخر أن يأكل مما يشتهيه ولا يتصنع ولا يتمنع.
11 – أن لا ينقص من عادته شيئاً عند الوحدة ولكن يعود نفسه حسن الأدب في الوحدة حتى لا يحتاج إلى التصنع عند الإجتماع (يعني إن أكلت وحدك فتقيد بآداب المائدة كأنما أنت في جماعة).
12 – أن لا يتوقف عن الأكل قبل إخوانه إذا كانوا يحتشمون الأكل بعده بل يمد يده ويقبضها وينتاول قليلاً قليلاً إلى أن يستوقفوا (ولا تثريب عليك إن قمت بالتمثيل والأناة حتى ينهض الضيف).
13 – أن لا يفعل ما يستقذره غيره فلا ينفض يده في القصعة (الطبق) ولا يمد إليها رأسه عند وضع اللقمة في فمه، وإذا خرج شيئاً من فمه صرف وجهه عن الطعام.
14 – إطالة الجلوس على المائدة.
15 – عدم التكليف بتقديم طعام للضيف أكثر من المتوفر في المنزل.
16 – أن لا يقول له هل أقدم لك طعاماً بل ينبغي أن يقدم (لأن الضيف والزائر يستحي عن قبول مثل هذه الدعوة المحرجة والدالة على البخل).
17 – لا يكثر الضيف النظر إلى الموضع الذي يخرج منه الطعام فإنه دليل على الشره (وهنالك بعض أهل الشره لا تنقطع أعينهم عن باب المطبخ أو المدخل الذي يخرج منه القِرى).
18 – تقدم الفاكهة أولاً ثم اللحم ثم الثريد ثم الحلويات (وهذا ترتيب صحي وله فوائد قال بها الطب الحديث).
19 – أن يبدأ بالأكل من ألطف الألوان حتى لا يكثر الأكل بعدها، وعادة المترفين تقديم الغليظ من الطعام ليستأنف حركة الشهوة (الشهية) بأكل اللطيف بعده وهو خلاف السنة فإنها حيلة في إستكثار الأكل (أي أنهم يقدمون اللحم ويأخرون الشوربة والخضار طمعاً في الإستزادة والشبع المُفضي إلى التخمة).
20 – تقديم الألوان بالتعاقب وإذا كان عند لون واحد فقط يجب أن يخبر الضيوف حتى لا يحرموا من الطعام، كان بعضهم يكتب نسخة بما سيقدم من الألوان ويعرضها على الضيوف (أن يتقدم الطعام بالتتابع ومن حق الضيوف أن يعرفوا الحاضر والقادم منه حتى يقدروا الإنتظار لما يحبون).
21 – عدم إجابة من يباهي (بطعامه وإطعامه فإن مثل هذا اللئيم يعلن بأن إجابة لدعوته منقصة لكل وإشهار له والعياذ بالله).
22 – ينبغي أن يعزل أولاً نصيب أهل البيت حتى لا تكون أعينهم طامحة إلى رجوع شئ منه، فلعله لا يرجع فتضيق صدورهم ويكون قد أطعم الضيوف ما يتبعه كراهية قوم ذلك خيانة في حقهم (ولأهل السودان عبارة شهيرة زاداً ما كفى أهل البيت يحرم على الجيران).
23 – في طعام أهل المنزل، غير طعام الضيافة، يفضل أن يقدم قدر الحاجة. ويروى هنا أنه كان لا يرفع من بين يدى النبي صلى الله عليه وسلم فضلة طعام قط لأنهم كانوا لا يقدمون إلا قدر الحاجة ولا يأكلون تمام الشبع (وهي من الآداب التي أفضت إلى إستحداث البوفي الحالي حيث ينال الضيف أو المدعو ما يختاره من المأكول والمشروب بقدر الكفاية حتى يرجع باقي الطعام سالماً لا تفسده أيادي القوم).
24 – إستحسان الأكل جماعة، وعن سفيان الثوري: إن الله وملائكته يصلون على أهل بيت يأكلون جماعة، وللشنفري
وَإِن مُدَّتِ الأَيدي إِلى الزادِ لَم أَكنُ
بِأَعجَلِهِم إِذ أَجشَعُ القَومِ أَعجَلُ
وَما ذاكَ إِلاّ بَسطَةٌ عَن تَفَضُّلٍ
عَلَيهِم وَكانَ الأَفضَلَ المُتَفَضَّلُ
وأخيرا إذا أضفنا إلى منظومة أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء والمنقذ من الضلال وتهافت الفلاسفة أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم التي من أشهرها ما رواه المقداد بن معد يكرب عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه). ومن أبلغ وألطف من وصايا السيدة عائشة حين أتاها بعض الصحابة يسألونها بماذا توصينا يا أم المؤمنين؟. فقالت في بلاغة ودلالة وإقلال (لا تشبعوا).