لقاء تاريخي بين دونالد ترامب والشيخ فرح ود تكتوك

ولألوان كلمة

حسين خوجلي

لقاء تاريخي بين دونالد ترامب والشيخ فرح ود تكتوك

مثل كل الإتفاقيات السابقة، التي طبختها واشنطن مع تل أبيب منذ عهد بايدن المغادر ونتنياهو المقيم، ومثلما تتواصل ذات الطبخة ما بين نتنياهو وترامب تشيع الأطراف الخادعة والمخدوعة هذه المرة استرجاع نصف الأسرى الإسرائيليين وضعفهم من الجثامين مع وقف محدود لإطلاق النار وادخال كميات محدودة من الإغاثات الدولية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وقبل أن يجف حبر الاتفاق ويتلمظ الفلسطينون الجوعى الخبز المُر، وقبل أن يرتووا من جرعات الماء المصنوعة بعد تدمير الآبار، وقبل أن يتم حقن الأطفال من الشلل والكوليرا والضمور وتجفيف الأطراف المبتورة؛ حتى تبدأ اسرائيل في القصف من جديد ضاربة بعرض الحائط كل ما أتفق عليه وتبدأ من جديد الإبادة والتجويع وبتر أطراف الأطفال وقتلهم وتدمير البيوت وإحراق الخيام وممارسة موهبة الترحيل العبثي للملايين من شبر إلى شبر بما يشبه مارثون التعذيب النفسي الذي لا شفاء فيه ولا شفاء بعده.
ومثل كل الاتفاقات السابقة الخائبة والخبيثة يقدم المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف اقتراحاً أمريكياً جديداً، هو بالتحديد أقصى ما تأمل فيه تل أبيب، بل أعمق وأكثر، المتمثل في اطلاق سراح نصف الأسرى وضعف الجثامين كما ذكرنا آنفاً، مع إغاثة محدودة توافق عليها اسرائيل وتقوم بتوزيعها، مصيدة جديدة لتجويد قتل الفلسطينيين حين يستجدون قطعة خبز وجرعة ماء ومصل دواء.
واكمالاً للخديعة فقد اقترح ويتكوف 60 يوماً لوقف اطلاق النار، وحتى هذه المدة لا ضمان لها، فمن المرجح أن تبدأ اسرائيل في القصف بعد اسبوع واحد من استلام الأسرى والجثامين بشتى الأسباب، التي لا تحتاج مبرراتها أكثر من بيان كاذب ومقترح يمكن أن يكتبه أي مجند اسرائيلي قاتل من اليمين الصهيوني المجرم.
إن مقترح ويتكوف الجديد الضاحك على لِّحى العرب وعمائمهم لا يقدم أي ضمان لوقف المذبحة أو فتح المعابر وإدخال الإغاثة الكافية، ولا حتى وعد عابر بإيقاف الحرب.
إن مؤامرة الإبادة والتجويع والحرائق ستبقى وتستمر لسبب بسيط، وهو أن أمريكا طرف أصيل في الأزمة والجريمة، ولذلك لن تكون أبداً طرفاً في الحل. و(الأمثلة منذ الحرب العالمية الثانية على قفا من يشيل).
وحتى وإن صدق وعدها الكذوب بالستين يوماً فهي مجرد أيام عابرات لتنظيف المدافع وإكمال تمويل القاذفات بالقنابل العمياء واسترضاء الاحتياطي ورشوة اليمين الصهيوني المشارك في الحكومة بمستوطنات جديدة وبتهويد الضفة الغربية وإبادة الشعب الفلسطيني في غزة بحجة الانتصار على حماس والمقاومة الفلسطينية.
وكل هذا يتطابق تماماً مع حلم المقاول دونالد ترامب وقع الحافر على الحافر، وبهذا يحقق له نتنياهو وعده بالتهجير القسري وتحويل غزة العراقة والتاريخ والكبرياء الوطني والعربي والاسلامي إلى قطعة أرض خالية من السكان والحياة وبحر وشط محايد ومشاع للتشييد وتقيم عليه شركات الخواجة ترمب مخطط الريفيرا السياحي الذي يحلم به منتجعاً للأثرياء والمترفين، فالرجل يؤذي سمعه وبصره وخياله مشاهد الشهداء والمقابر والفقراء والمستضعفين والجرحى والشيوخ الضعاف والأرامل الثكلى والأطفال الأيتام.
إن كل الذي تطالب به الدول العربية بعد أن دفعت (دم قلبها) من البلايين هدنة حتى تريح هياكلها المرتجفة من قبضة الجماهير العربية والإسلامية، وهي تعيش عصر المذابح والمذلة والهزيمة والانكسار.
مجرد هدنة للحفاظ على ماء الوجه المستباح على أروقة الأمم المتحدة الكرتونية ومجلس الأمن الذي صنع خصيصاً لإخضاع هذه الأمة الشاهدة.
إن كل الذي تطلبه المقاومة الفلسطينية المفترى عليها من الغساسنة وأسيادهم هو ايقاف الحرب والمذابح والإبادة وفتح المعابر حتى لا يموت الأحرار جوعاً. وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة واعادة الإعمار، مع استعداد حماس المعلن بالانسحاب من غزة سياسياً وإداريا، وتسليم السلطة بالكامل إلى حكومة تنكوقراط يرضى عنها الشرق والغرب وقبل التوقيع تهمس في أذن العرب والعجم والفرنجة: (أيها الغافلون والمرتجفون والصامتون في فجر الكلام، إن قضية هذا الشعب المقهور والمهجر والقتيل لم تبدأ في أكتوبر 2023م، وإنما بدأت عام النكبة في 1948م واستمرت الجرائم، ليس عام بعد عام، بل في كل شهر وكل يوم جديد).
وبشروط المقاومة هذه التي لا سياسة فيها لم تترك أي فرصة للرأي العالمي للصمت، ولم تترك فرصة لإسرائيل للتملص ولا لأمريكا بالتسويف، أما إذا ارتضت حماس بالستين يوماً التي تعقبها طلعات الـ f16 و الـ f35 بقنابلها المخيفة المدمرة والقاتلة التي لا تبقي على هذه الأرض المنكوبة بشراً ولا حجراً ولا شجراً.
وإن كانت لنا برقية سمراء أخيرة نهمس بها في أذن المقاومة الفلسطينية الباسلة في الضفة والقطاع، فهي أن الشعب السوداني المهيض الجناح صاحب لاءات الخرطوم الثلاثة والمحاط بذات المؤامرة بشياطين من مجاهل الشتات والذي يحمل للشعب الفلسطيني الكثير من الاحترام والفخر ومشاعر الأخوة، وبجسور تاريخية من الدم والنضال المشترك والقضية والمصير، نعم فإنه لا يملك للأسف في هذه الأيام إلا ما يقدمه (غريقاً لغريق)، ورغم ذلك فإنه لا يعدم بعض الدعاء في ساعات السحر وبعض هتاف في نهارات الصحوة، وبعض الحكم والحكايات ذات المغزى.
ومنها حكاية الشيخ فرح ود تكتوك، التي تقول سرديتها المباركة أن أحد سلاطين السلطنة الزرقاء المستبدين، خرج على الناس يوماً، وقد لحظ أن الناس قد أهملوه وأولوا بالترحيب والإهتمام الشيخ الصالح فرح ود تكتوك أكثر من ما ناله هو الأمير، فحقد عليه وأضمر له سوءً، وهنا نفث خبثًا أحد بطانة السوء المقربة منه بفكرة جهنمية مفادها أن يأمر الأمير، الشيخ فرح بأن يقوم بتحفيظ جمل السلطان القرآن إن كان صالحاً كما يدعون، فإن رفض فيعد هذا مخالفة لأوامر السلطة، ويقوم بهذا المبرر بسجنه وتعذيبه وقتله، حتى يخلو وجه الناس له، وكانت دهشة السلطان وبطانته والحضور عظيمة، حين الشيخ وافق بالأمر وأجاب على السلطان بصوت ساخر ومبين: سمعاً وطاعة يا سعادة السلطان سأقوم بتحفيظ الجمل القرآن وبالتجويد والقراءات السبعة، ولكن بشرط وقال السلطان: وماهو شرطك؟ فأجاب الشيخ فرح بثقة: أن تمنحني 5 سنوات لإنجاز المهمة، وتلفت السلطان لخاصته ووافق على المهلة، واقتيد الجمل إلى خلوة الشيخ فرح ود تكتوك القرآنية وبدأ في تحفيظه المستحيل، مع صبيان سنار حاضرة السلطنة.
وفي ليلة من ليالي الصفاء اختلى به أحد تلاميذه بعد أن تأكد من خلو المكان من الرقباء وقال هامساً: كيف ترضى يا شيخنا بتحفيظ جمل قرآن وأنت أدرى الناس بأن هذا أمر لن يحدث لا بمعجزة ولا بكرامة لأنه ضد طبيعة الأشياء؟ وابتسم الشيخ فرح وقال في ذكاء ورضاء: لقد راهنت يا هذا على الزمن والخمسة سنوات وقبل أن تمضي ربما مات الأمير أو مات البعير أو مات الفقير. وقد درج أهل السودان أن يسمون الفقية بالفقير، فالفقر عند أهل السودان يرتبط دائماً بالزهد والصلاح.
فإن صحت المماثلة مع الفارق الكبير ما بين سنوات الشيخ فرح ود تكتوك والستين يوماً للمقاومة (المشكوك فيها)، فربما نفق ترامب أو أقصي، أو هلك نتنياهو أو أحدث الله أمراً كان مفعولاً، لأن قضية الشعب الفلسطيني العادلة لا تموت ولن تموت.