
إسحق أحمد فضل الله يكتب: (سيرة لا تهم أحدًا)
مع إسحق
إسحق أحمد فضل الله
(سيرة لا تهم أحدًا)
ولأنها لا تهم أحدًا، فهي مريحة… راحة من لا يرقب قبولًا أو رفضًا من أحد.
…….
1946…..2026
السبت… الأحد… الاثنين… اعتدت أن أسأل أيام الأسبوع: هل وُلدتُ فيك يا يوم الأحد؟ يا يوم الاثنين؟ الثلاثاء؟
والشهور مثلها…
أما العام، فهو السادس والأربعون، وهو مذكور لأنه عام الفيضان الذي لا ينساه أحد.
> (إن الثمانين وقد بلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان)
هذا هو لبيد.
وأنا… الثمانون جعلت ذاكرتي مثل بيتٍ انهار سقفه، وبعض الأحداث ترفع ذراعها من تحت الركام والطين والقش، وأحداث تنهدت تحت الركام وذهبت إلى عالم آخر.
لكن بعض ما يبقى هو البيت، والأم، والأب النحيل، والإخوة السبعة.
أما الأخوات، فقد ذهبت أولاهن إلى القبر وهي طفلة.
وأمها حتى نهاية العمر ظلت تحكي في حسرة كيف كانت طفلة جميلة، وفي السادسة أخذت دمامل غريبة تظهر تحت رموشها… ثم…
وجاءت أم سلمة، ثم إسماعيل الذي التصق بأمه عمره كله، وما زالت قبورهما ملتصقة الآن.
ثم علي الرقيق الجسم والروح، الروح التي تجعله معلّمًا يمشي في الطرقات فيهرع إليه رجال كانوا تلاميذه.
وكنت أنا التالي.
وما أذكره هو شيء يصحبني حتى الآن، وهو أنني أبدو غبيًّا… شديد الغباء.
وأيام عملي في الصحافة والتحقيقات كنت أستغل هذا الشعور عند من أحدثهم من المسؤولين، فالمسؤول يسترخي ويتحدث دون تحفظ عندما يشعر أن من يحدثه من الصحفيين شخص يستطيع أن يغوص به في كل بحرٍ وصحراء وأودية الجن.
وبعض ما يطفو على سطح الذاكرة الآن من استخدام ظنّ الغباء هذا، هو أنني أدخل قيادة الجيش، وألمح عربة الرئيس البشير، ثم عربات قادة الأركان، وبكل السذاجة التي لا تخيف أحدًا أسأل أحد الحرس، وهذا يحدثني عن اجتماعٍ سريٍّ في غرفة العمليات…
ولم يكن هناك يومها غير نزاع أبيي.
وشعرت أن عملًا عسكريًا يُدبَّر، والغباء يجعلني أجالس الحرس ونرشف الشاي، وحين تتكرر جولات الشاي نعلم أن ما يجري هو اللمسات الأخيرة للخطة…
والبشير يخرج، والبدل العسكرية تتبعه، والحرس ينشغلون بفتح أبواب العربات، ولحظتها كنت أنشغل أنا بفتح باب غرفة العمليات، وهناك ألتقط كل الخرائط وأجعلها تحت ثيابي، وفي مكتبي أبسط الأوراق وأجد أمامي الخطة كلها… خطة معركة أبيي.
وأفهم في لحظة أنني إن أشرت إلى شيءٍ من هذا، كسرتُ ظهر الجيش.
مثلها، في استخدام مظهر الغباء، كان لقاء البشير ومدير المخابرات لقاءً يمتد حتى منتصف الليل، لكن البشير الذي يبدأ يومه بقراءة المقالات، يتصل بـقوش ليقول في دهشة:
> كيف وصل لقاؤنا أمس إلى إسحق فضل الله؟
والسؤال يلطمنا به قوش، الذي يقودني إليه قبل دخولي مكتبي، ونقول للرجل:
> لقاؤك والبشير ينتهي منتصف الليل، والمقال هذا نكتبه عند المغيب… فكيف نكون قد سمعنا شيئًا من الاجتماع؟
كان ذلك واحدًا من الأحداث التي جعلت قوش والناس يشيعون أن إسحق فضل الله له جنيّة تنقل إليه الأخبار.
لكن الجنية كانت تقدم خدماتها إلينا في يومٍ آخر، ففي لقاءٍ سري بين وفدٍ من مخابراتنا وبين سلفا كير، كان اللقاء ينتهي عصرًا، وفي صباح اليوم التالي كان اللقاء مرسومًا بدقة في المقال.
وضباط المخابرات يصرخون في وجوه بعضهم، كلٌّ يتهم الآخر بأن فيهم غواصة لإسحق فضل الله.
وما لا ينتبه إليه أحد هو أن ضابط الخدمة في مكتب سلفا كير كان صديقًا لنا، والضابط هذا حين أخذ يحدثنا نطلب منه رسم اللقاء، وأين كان يجلس كل واحد، وماذا كان يرتدي، ومن منهم تحدث بالإنجليزية أو بعربي جوبا…
وكان وصف اللقاء هذا هو المسمار الذي يعلّق على حائط الناس أن إسحق يستخدم جنية.
ومسامير أخرى كانت هناك…
وإلى درجة أنه في بداية اجتماع برئاسة باقان كان هذا يطلب من كل أحد أن يفتح كل الأدراج ليتأكد من أن إسحق فضل الله لا يربض هناك.
وسكرتير الشيوعي لا يطلب فتح الأدراج، لكنه يقول في هياج إنه لن يبدأ اللقاء هذا إلا بعد أن يعرف من هو غواصة إسحق في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي.
ولقاء لقادة الأقاليم في الجنوب يتم تحت شجرة، على بساطٍ من النايلون ومساند حمراء… كان يقول ويقول، ونحن نستمع، فقد كان أحد وزراء سلفا كير يطلب خدمةً منا نقدّمها لأسرته في الخرطوم.
وفي لقاء الشيوعي لبحث “كيف يهدمون إسحق فضل الله”، كان الاقتراح تأليف أكاذيب مضحكة، والزعم بأن إسحق قالها.
وأطلقوا حكاية تقول إن إسحق فضل الله قال:
> لما كنت أمشي في الغابة لقيني رجل أبيض الثياب شديد سواد الشعر… و…
يقصدون أن إسحق يقول:
> لقيني جبريل.
والناس لم يبتلعوا الكذبة، لكن الناس ابتلعوا أخرى تقول:
> إسحق فضل الله قال إن غزالة لقيته وقالت له: اذبحني، فإن المجاهدين جائعون.
ومعارك لا تنتهي ترفع خشباتها من تحت ركام سقف الذاكرة المنهار.
ولعل الحديث هذا هو موجة من موجات الغباء التي تغطي حياتي.
وما أكثر ما فعلنا من أفعال كانت نتائجها كارثية.
والحديث هذا — والسيرة الذاتية هذه — في أيام الحرب والجوع والوباء، هو نوع من هذا الغباء.
وهل نمضي فيه أم لا؟… لا نعلم.