أصحاب القلوب الرقيقة يمتنعون
ولألوان كلمة
حسين خوجلي
أصحاب القلوب الرقيقة يمتنعون
هناك الكثير من الحكايات المحزنة التي تدور حول العلاقات الإنسانية ما بين الرجال والرجال ومابين النساء والنساء ومابين الرجال والنساء وأغلبها يمكن تجاوزها والعبور فوقها إلا أن الحكايات الأكثر حزناً هي حكايات عقوق الوالدين خاصة عندما تصيبهما الشيخوخة والمرض وهي قصص مؤلمة ولا تُحتمل بل أن مجرد سردها يرسم خطوطاً من الأسى والأسف وشروخ من الآلآم التي لا تندمل، وتظل تطرق أعماق النفس بعنف ولا يخلو مجتمع من مثل هذه السرديات المقلقة ، حيث يتناسى الأبناء أن الذين يتنكرون لهم من الآباء والأمهات كانوا سبب وجودهم بعد الله سبحانه وتعالى، وقد مروا حتى أصبحوا راشدين وراشدات بمشوار من ألم المخاض والتربية والتحنان والإحتمال المر فإذا ارتبط هذا العقوق بالقسوة والإبتعاد عن القيم والعقيدة والدين فانه يبلغ مبلغاً عظيماً من الوجد والجراح وأغلب الذين يمارسون هذا الفعل الشائن القبيح في غفلة بعد أن أن يكون الشيطان قد إمتطاهم تماماً إلى أودية الجحود والنكران للمدى الذي أصبحوا لا ينتبهون فيه للآية الكريمة التي إن طرقت قلب الصخر الجلمود لأذابته وأحالته إلى عطف ورأفة وحب وإن الذي لا يتوفق عند الآية الكريمة
(وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا).
نعم إن الذين لا يتوقفون عند هذه الآية بالتدبر والخضوع والخوف فلعمري فإنهم لن يتوقفوا أبدا.
إن من أكثر الشعوب حصراً على الوالدين منذ القدم وقبل النكبة وبعدها إشفاقاً الآباء السودانيين على آبائهم وأمهاتهم، والكُثر من أهل السودان وإن تضاءلت معرفتهم فإن أغلبهم يحفظون عن ظهر قلب الآيات التي تحض علي بر الوالدين والأحاديث النبوية في هذا الباب وأشهرها المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه (رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، ثُمَّ رَغِمَ أنْفُ، قيلَ: مَنْ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: مَن أدْرَكَ أبَوَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ -أحَدَهُما أوْ كِلَيْهِما- فَلَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ).
ومن المناقب التي تُذكر في هذا المسلك عند الزهاد والعارفين قصيدة إبن الجوزي العالم الفقيه الشاعر
زر والديك وقف على قبريهما
فكأنني بك قد نقلت إليهما
لو كنت حيث هما وكانا بالبقا
زاراك حبواً لا على قدميهما
ما كان ذنبهما إليك فطالما
منحاك نفس الودّ من نفسيهما
كانا إذا ما أبصرا بك علة
جزعاً لما تشكو وشق عليهما
كانا إذا سمعا أنينك أسبلا
دمعيهما أسفاً على خديهما
وتمنيا لو صادفا بك راحة
بجميع ما تحويه ملك يديهما
ولتلحقنهما غداً أو بعده
حتماً كما لحقا هما أبويهما
ولتندمنّ على فعالك مثل ما
ندما هما قدماً على فعليهما
بشراك لو قدّمت فعلاً صالحاً
وقضيت بعض الحق من حقيهما
وقرأت من آي الكتاب بقدر ما
تسطيعه وبعثت ذاك إليهما
وَبَذَلتُ مِن صَدَقاتِ مالِكَ مِثلَ ما
بَذَلا هُما أَيضاً عَلى أَبَويِهِما
فَاِحفَظ حَفَظتَ وَصِيَتي وَاعمَل بِها
فَعَسى تَنالَ الفَوزِ مِن بِرَيهِما
توسلت بكل هذه المقدمة لأنني تذكرت أيام ألوان الأولى عندما كانت ورقاً يتلقفه السودانيون في كل المدن والبوادي شرقاً وغرباً شمالا وجنوباً، وأذكر أني قد كتبت يوماً في عمودي (ولألوان كلمة) بأننا شعب مولع بالشفاهية وضنين بالحكيات الإجتماعية التي تدعو للتدبر والإعتبار وتحرض على التوبة وبدأت أنشر في بعض الأيام التي تصيبنا فيها (القرف من السياسة والسياسيين) بعض المقالات والحكايات الإجتماعية وأجردها من الأسماء والمواقع حتى لا يطابقها الناس بأشخاصها والمجتمع السوداني على إمتداته له ولع بالهمس والنجوى (والشمارات).
حكى شاهد المدينة أن رجل أعمال شهير كان يعمل في الإستيراد والتصدير صرفته نجاحاته المالية ونزواته وأسفاره فعزف عن الزواج طويلاً حتى بلغ الخمسين وفي إحدي منعرجات حياته قابلته فتاة فائقة الجمال لها قَدٌ كالبان ولون كالذهب ووجه كإشراق البدر ليلة تمامه، وقد شغفته حباً وهياماً فلم يسأل عن مال ولا حسب ولا دين فقد ظن المسكين أن الجمال وحده يكفيه وتم الزواج البهيج الذي تحدثت به المدينة قبل سنوات طويلة زماناً، كانت لياليه من ليال (ألف ليلة وليلة) وبعد أن غادر الجميع عاد الشيخ إلى قصره المهيب ومعه الأميرة التي إختارته لماله وإختارها لجمالها ويالها من صفقة! أنجب منها إبناً وإبنة ودارت الأيام واستبانت الزوجة بوجهها المكفهر صباحاً ومساء وطبعها المتسلط وفات على المسكين زمان إتخاذ القرار فرضي في صمت مُذِل عن لؤم طبعها وطمعها وإستأثرت بأطفاله ورضي بما قسمه له الإختيار المُر.
شب إبنه عن الطوق ودخل على الصبا فكان فاشلاً بمتياز ليس فيه صلاح وفلاح أهل السودان وليس فيه (شطارة أبيه في التجارة) كان مبذراً مأفوناً ومقامراً وأصبحت حياته من صباح أسود إلى ليلة حمراء وكانت الإبنة لا تقل عنه سوءاً وفجوراً وقد تزوجها رجلٌ في شاكلة شقيقها وكما يقول أهل السودان (كل فوله وليها كيال) وتآزر الثلاثي علي الأب الذي حاصره المرض مع الشيخوخه مع قلة المساعد والنصير، ضغط عليه الثلاثي الخطير فكتب كل ممتلكاته باسم الزوجة الشريرة ولم يشرك في هذا التنازل حتى إبنه وإبنته فصار كل الأمر بيدها، وفي إحدي الأيام الحالكات نادت الشطانة الكبرى على إبنها لم تقل له ولكن أمرته بغلظة وقسوة وبشاعة إن أبيك قد صار عبئاً علينا وعلى ضيوفنا وعلى منظرنا أمام المجتمع المخملي فابحث له عن صِرفة، وقبل أن يغادر إلى الملجأ الذي تختاره فعليه أن يطلقني (وبالثلاثة) فعل الشيخ المريض كل ما أرادته العصابة وجد الإبن الحل الإجرامي عند رجل مُسِن وصاحب فاقة وعوز وفستأجر منه غرفة في منزله المتواضع بحجة أن والده يريد أن يكون بقرب المسجد ونبحث له عن رجل ليصطحبه وأضاف (وأنت تعلم أني كثير الأسفار والترحال) وافق الرجل المسن على العرض المغري وأعدوا الغرفة المتواضعة في عجل وحملوا المسكين إليها وقد ضرب المرض الشيخوخة والعظام والسمع والبصر فصار شبحاً من أشباح المدينة التي طالما أضاءها بنجوميته وماله ونجاحاته الدنيوية وكان حظه من كل أمواله الطائلة سرير ناصل اللون خفيض ومروحة قديمة وطعام تصنعه إمرأة الرجل المسن بتأفف، الإشراقة الوحيدة في حياة المسكين أنه كان يؤدي صلواته الخمسة في المسجد فلقد كان علي مقربه من غرفته وكان الرجل المسن يتفضل عليه بالرفقة صوب المحراب.
الفاجعة التي لم يسمع بها رجل الأعمال المسكين المهدور القيمة أن طليقته قد تزوجت من شاب في عمر ابنها وإن إبنه تزوج في فتاة لا تقل سفالة عن أمه وشاخت الأيام وشاخ الجميع وصار للإبن إبناً وصار للبنت بنتاً ولكن (لا تنجب العقارب إلا العقارب) وصار زوج الشيطانة المطلقة الشاب يبتزها بشبابه وتخضع له بتقدم سِنها و ذهاب جمالها ونضرتها وما أشبه الليلة بالبارحة!
ذهبت في إحدي السنوات كل الأسرة الزوجة الشريرة بزوجها (السمسار الإنتهازي) والإبن بإبنه والإبنة ببنتها وزوجها الذي يطابقها الحافر على الحافر في سقوطها ،ذهب الجميع إلى إحدي المصائف هروباً من صيف السافنا الفقيرة مستمتعين بنعمة رجل الأعمال الكهل الطريد عادوا بعد ثلاثة أشهر بالتمام والكمال وبعد يوم من وصولهم وبالسلوك الرخيص المعتاد ذهب إلى أطراف المدينة في زيارة والده أو بالأحرى ليدفع لكفيله الفقير المسن إلتزامات (ثلاث أشهر المصيف) الماضيات والإجازة المترفة. قاد له إبنه السيارة في هذه الرحلة المشؤومة سأل الإبن عن أبيه في لا مبالاة وسأله إبنه عن جدة في غير لهفة أصابهم الفزع والدهشة عندما فاجأهم الكفيل المسن بإن والدهم قد فارق الحياة بعد صدمة سكري لم يَلحَظها أحد فقد كان وحيداً وكان الليل مُطْبقاً فلم يسمع أحد تأوهاته ولا صراخه فعندما أتاه عند الفجر وجده صريعاً منطوياً في قرفصاء في قلب السرير، صلوا عليه في المسجد ودفنوه وقد تبعه في الجنازة الصف الأول من رواد المسجد المداومين (وانتهي العزاء بإنتهاء مراسم الدفن) قالوا له في فتور بعد أن عادت لهم طبيعتهم الإبليسية نريد أن نرى غرفته، دخلوا الغرفة فكان السرير من وطأة التململ القاسي مقارباً للأرض وقد صدأت المروحة فما صارت تعمل وخَمدَت ثريا الغرفة فكانت مطفأة والزمان نهار كان الفصل الأخير في التراجيديا أن إبن الإبن طوى (لحاف) جده وقد فاحت منه رائحة التبول والعرق وقال له أبوه في تأفف ماذا تريد بهذا الفراش والغطاء الرخيص المتعفن فرد عليه الإبن بكلمة كأنها إنفلقت من حكمة الأسف الإنساني الذي وقف مشدوهاً في تلك الغرفة الحزينة أريد أن أحتفظ به يا أبي فلعلك تحتاجه في شيخوختك ولف الصمت المكان وأغلقت الغرفة المأساة مثل ما أغلق وجه القبر البعيد.