عثمان حسين .. أسطورة النغم

عثمان حسين .. أسطورة النغم

بقلم: أمير أحمد حمد

طفولته بدأت في أرض المحنة والجمال وحسن الخصال، تلك أرض الشمال، حيث النخيل الباسق والنيل الخالد الذي إنحنى عندها إجلالًا لحسنها ورونق بهائها وطيب إنسانها. هنا كانت صرخته الأولى التي امتزجت مع خرير المياه، وحفيف الأشجار فكانت بداية النغم الأسطوري رغم أنه لم يمكث بها إلا خمس سنوات ولكنها شكلت ورسمت ملامح حياته كما يقول علماء النفس أن السنوات الخمس الأولى من حياة الإنسان كفيلة بأن توضح شخصيته وميوله. الأستاذ عثمان حسين محمد التوم هكذا كان إسمه. لم يكن يتخيل أن هذا الإسم سوف يدخل إلى مسامع الملايين من أفراد الشعب السوداني.

 

+ مابين مقاشي وديم التعايشة

دخل إلى الخلوة في مقاشي وأتمها في الخرطوم في منطقة ديم التعايشة. ثم إنتقل إلى التعليم النظامي الكتاب أو الأولية، ولم يوفق في مواصلة التعليم إلى مراحله العليا واكتفى فقط بتلك المرحلة الأولى. امتهن مهنة الحياكة مع أحد أفراد أسرة زهري باشا وقد برع في مهنته مما حدا به أن يفتح محلًا خاصًا به ولكن لم يستمر كثيرًا في تلك المهنة، حيث داهمه مرض عضال وهو حب الفن والغناء، فتعلم عزف العود وبرع فيه. وكان شغوفًا به وقاده شغفه هذا إلى أن يستقطع مبلغ مئة وخمسين قرشًا من ما يتحصل عليه من كسبه ليقتني العود.

+ من العزف إلى الغناء

 

دخل إلى بهو الغناء عازفًا مستترًا عن والده، الذي ربما منعه لو علم أمره. موهبته العزفية جعلته مرافقًا للفنان عبد الحميد يوسف عاشور منذ بداية الأربعينيات وحتى تجاوز النصف الثاني منها بعامين في العزف على العود. وفي واحدة من تجليات عثمان حسين وفي إحدى سفرياته مع عبد الحميد يوسف إلى الأقاليم سمعه عبد الحميد يدندن بواحدة من الأغنيات فأعجب بصوته وتنبأ له بمستقبل زاهر في مجال الغناء. وهذه شهادة أولى من قامة فنية كبيرة مثل عبد الحميد يوسف. ويكفيه فخرًا أنه سجل للإذاعة في الفترة من عام 1942 إلى 1945 عدد 20 أغنية ولكن معظمها ضاع بسبب حريق الإذاعة الشهير.

+ حارم وصلي مالك

كان عثمان حسين مساهم في هذه المسيرة مع أستاذه عبد الحميد يوسف، وهي فترة خصبة في حياة عثمان عثمان حسين جعلته يزرع في داخله حقول من النغم الشجي، فكان حصادها الأول يبشر بمنتوج وفيرعالي الجودة. وقد كان، حيث جاءت إليه كلمات عبر أخيه طه حسين من شاعر التجديد عتيق:

حارم وصلي مالك
يالمفرد كمالك
أنا واحد غرامي
وأنا شاعر جمالك
مع طول انصرامي
وتعذيبي وضرامي
ما أستهواني غيرك
وما أتبدل غرامي
أسهر ليلي وحدي
أروي غناي وحدي

إلى نهاية الأغنية الجميلة فهي حقًا بداية موفقة لعثمان حسين. وظني أن كلمات الأغنية جاءت ملحنة لتناغم كلماتها مع بعضها البعض فأحدثت نغمًا لفظيًا فإزدادت رونقًا وجمالًا بإلتقائها بالنغم الموسيقي من نفس الأسطورة عثمان حسين. لحن هذه الأغنية أكد موهبته في مجال الألحان والتأليف الموسيقي وخروجه من نمط اللحن الدائري، الذي كان سائدًا في ذلك الزمان، ويعتبر هذا اللحن، أول عمل يمتلكه.

+ الفراش الحائر

ثم كان اللقاء الأول بينه وبين الشاعر قرشي محمد حسن صاحب البرنامج جهير السيرة مع أدب المدائح:

يا حبيبي قلت لي في اللقاء الأول
بين همس السنبل وخرير الجدول
في المساء المقبل سوف تلقاني ولكن
ما إلتقينا
يا حبيبي أقبل الليل علينا
وحباب الكأس يخبو في يدينا
وإرتشفنا تباعًا فما إرتوينا

حقا كلمات مدهشات ألبسها اسطورة النغم لحنًا بديعًا دونه في مملكته اللحنية. ولكن يبقى لحنه الثالث من كلمات نفس الشاعر قرشي محمد حسن، الفراش الحائر لحنًا محيرًا حقًا لكل المهتمين بأمر الموسيقى والتأليف الموسيقي، فقد فات به الكبار والقدرو وقد إرتقى بصاحبه مرقى عليًا جعله فنان من الدرجة الأولى الممتازة بعد أن كان فنان الدرجة الرابعة:

طاف الفراش الحائر
مشتاق إلى زهراتك
حبيبي آه أنا غائر
بخاف على وجناتك
حبيبي طرفي مسهد
بجمال صفاك وصفاتك
آمنت بيك يا ناير
أنا حكمي لو كان جائر
إنت الجميل ومدلل
وثانية ما بتحمل
مشتاق إلى زهراتك

وقبل أن تستمع إلى هذه الكلمات على لسان الأسطورة يسبقها كرنفال ومهرجان موسيقي رهيب لا يمل حتى ولو استمعت إليه مرات ومرات. هذا هو المبتدأ في حق الأسطورة وتبقى لنا الخبر في المقال القادم بإذن الله.