بازرعة وعثمان حسين .. منجم الألحان الشجية وأسطورة النغم

بقلم: أمير أحمد حمد

نبدأ صياغة خبرنا عن المبتدأ الذي بدأنا به مقالنا السابق، وربما يكون خبرًا أول ويليه خبر ثاني، حتى تكتمل الجملة التوثيقية، عن حياة رجل أبدع ثم أمتع مستمعيه بحسن اختيار الكلمات وغمرها بألحان عذاب ارتوى منها كل ظامئ للفن الأصيل. إنه أسطورة النغم الأستاذ عثمان حسين. ونعرج في هذا المقال إلى تجربة عثمان حسين مع شاعر حلق في ربا الرومانسية بجناح العشق الممنوع الذي كتمه في دواخله وعاش به، حتى لقي ربه فكانت كلماته سلوى ونجوى له. كلماته وجدت منجم الألحان الشجية، فكانت الثنائية الخطيرة بينه وبين أسطورة النغم، عثمان حسين فدخلا بها بورصة الفن السوداني فنالت أعلى قيمة إبداعية في الفن السوداني. ذلكم الشاعر الضخم وملك الرومانسية حسين محمد سعيد الشهير بحسين بازرعة.
كان الملتقى الأول، بينهما في أمدرمان في بهو قهوة جورج مشرقي (سوق الموية)، ذلك المكان الذي شكل وجدان الشعب السوداني، حيث كان ملتقى للأدباء والفنانين والشعراء. وقد شهد هذا المكان ميلاد العديد من روائع الغناء السوداني. وعثمان حسين كان واحد من رواد هذا المكان لحبه لأمدرمان، رغم أنه خرطومي الهوى، فغنى لأمدرمان من كلمات، ابنها الشاعر علي محمود التنقاري أغنية أنا بعشق أمدرمان والتي يقول فيها:

أنا بعشق أمدرمان
حب الوطن إيمان
وأعظم رسالة
لا شك هي أمدرمان
فيها الحياة ألوان
بأدب رفيع مزدان
ترى في عيونا جنان
يلهيك عن لبنان بي ظلاله

ولكن للأسف هذه الأغنية غير مسجلة في إذاعة أمدرمان وجاءت بعد أن غنى أحمد المصطفى أغنية عبد المنعم عبد الحي أنا أمدرمان.
كان حلقة الوصل بين عثمان حسين، وبازرعة الشاعر قرشي محمد حسن شاعر الفراش الحائر واللقاء الأول وخمرة العشاق، فقد كان بازرعة معجبًا بهذه الأغنيات، وتمنى أن يغني له عثمان حسين وقد كان. أتى بازرعة وكله عشم أن تنال كلماته اعجاب الأسطورة وبدأ في قراءة قصائده، فكانت القبلة السكرى قبلة أولى على خد الثنائية بينهما:

أتذكري في الدجي الساجي
مدار حديثنا العذب
وفوق العشب نستلقي
فنطوي، صفحة الغيب
وإذا ما لاح نجم السعد
نرشف خمرة الحب
أتذكري عهد لقيانا
يوم القبلة السكرى
أقبل ثغرك الظامئ
فقد لا تنفع الذكرى

إلى نهاية الأغنية الرائعة التي تنضح رومانسية فألبسها عثمان حسين لحنًا أظهر رومانسيتها وجعلها من روائع الأغنيات. ولم يفق المستمع السوداني من هذه القبلة السكرى حتى أدخله بازرعة في وكر مهجور قاده إليه لحن بديع من الأسطورة وكر يحكي فيه بازرعة ذكرياته الماضية بأسلوب تشتم فيه رائحة الحزن والبكاء على الذكريات:

كانت لنا أيام
في قلبي ذكراها
مازلت أطراها
يا ليتنا عدنا
أو عادت الأيام
إن أنسى ما أنسى
ذكراك يا سلمى
في وكرنا المهجور
والصمت قد عم
تحلو لنا الشكوى
والحب والنجوى
لن أنسى نجواك
والهمس والبسمة

يا الله، على روعة الكلمات السلسة تنساب كما ينساب النسيم على الجبين فينعشه. كلمات لحنها عثمان حسين وهو يمتطي سيارة في طريقه إلى منتزه يروح فيه مع أحد أصدقائه ولا يدري أنه بهذا اللحن قد روح عن شاعرها وعن جموع الشعب السوداني المتعطش للطرب الأصيل. هذه الأغنية وسابقاتها قد أكدت علو كعب عثمان حسين في امتلاك ناصية التلحين، واختياره لجميل الكلمات وبعدها انطلقت الثنائية الكبيرة بينهما وتوالت الأغنيات فكانت ليالي القمر مضيئة في سماء الغناء السوداني وأجمل أيامي وقصتنا شاهدة على شاعريته وخياله الطامح ولا تسلني عن ابداعه وعن شجنه ومصيره ولا وحبك وهو ونجمه ومساؤه وأرضه الطيبة، التي كانت تبعث فينا حب الوطن والفداء من أجله ومن أجل حبك مازالت أغنياتك تفعل فينا العجب وكيف لا وهي معبقة بألحان دافئة وصوت شجي يخترق الوجدان صوت أبوعفان فكنت أحد أفراد الإمبراطورية العثمانية وأعظم وزرائها، ومن جميل أغنيات هذه الثنائية قصتنا :

بالمعزة بالمودة بينا
بي أغلى الصلات
بالهوى العشناه بي أعصابنا
خمس سنين ومات
بالعذاب الشفته والسر الكتمتو
معاك وباقي الطيبات
استحلفك أترك سبيلي وسيبني
وحدي وأقاسي مر الذكريات

يا سلام على جميل الكلام، وروائع الألحان . الرحمة والمغفرة للشاعر حسين بازرعة وأسطورة النغم، الأستاذ عثمان حسين.