
إبراهيم شقلاوي يكتب: الرباعية ومسرح الدم السوداني
وجه الحقيقة
إبراهيم شقلاوي
الرباعية ومسرح الدم السوداني
في مسرح الحرب السودانية المليء بالفرجة و الفواجع، يبدو الحديث عن هدنة لثلاث اشهر ووقف اطلاق النار كفصول جديدة من مأساة لم تُكتب نهايتها بعد. هدنةٌ تلو أخرى، تتوالى بعناوين براقة وشعارات إنسانية من قبيل “إيصال المساعدات” وأمان المدنيين ”، لكن خلف هذه اللغة الدبلوماسية الناعمة، يتسع نزيف الوطن ويضيق الأمل وتعظم التحديات.
منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023، تعاقبت المبادرات التي قادتها ما تعرف بـ الرباعية الدولية ، الولايات المتحدة، السعودية، مصر، والإمارات. دون أن تضع حدًا للنزاع، بل تحوّلت إلى ما يشبه “غرفة الإخراج” لصراع يُدار بذكاء يستهدف تفكيك الدولة السودانية، تُكتب مشاهده في العواصم البعيدة بينما يُعرض دمه على مسرح الوطن.
لقد بات واضحًا أن هذه الهدن لم تُصمَّم لإنقاذ المدنيين، بل لالتقاط أنفاس الميليشيا وإعادة تموضعها ميدانيًا، بينما يستمر الجيش في خوض معركة يُراد لها أن تُستنزف المؤسسة والموارد.
الخطأ الأكبر الذي ارتكبته الرباعية هو اختزال الأزمة السودانية في معادلة سياسية ضيقة، تتجاهل عمقها الوطني والتاريخي، وتتعامى عن حقيقة أن الحرب ليست على السلطة، بل على بقاء الدولة.
في كل جولة تفاوض، يتكرر المشهد ذاته: ضغوطٌ دولية باسم “التهدئة”، وبياناتٌ متكررة، وتجاهلٌ تام للبعد الاستراتيجي للصراع. النتيجة دائمًا واحدة: تمدد الميليشيا ، وتراجع الدولة، وازدياد المأساة الإنسانية.
الرباعية تمسك بزمام المسار الدبلوماسي، لكنها فقدت بوصلتها الأخلاقية حين ساوت بين جيشٍ وطنيّ يدافع عن سيادة البلاد وميليشيا مسلحة ترتكب أبشع الجرائم. ليس المطلوب اليوم هدنة جديدة تُفرض من الخارج، بل رؤية داخلية تعيد ترتيب أولويات الحل الوطني بما يضمن بقاء الدولة.
وإن كانت هناك حلول مقترحة، فلتبدأ بإعادة النظر في دور الرباعية ومسؤولياتها ومكوناتها ، مع ضرورة فصل المسارات الإنسانية والأمنية عن المسار السياسي. فالمأساة الإنسانية لا يجوز أن تظل رهينة المساومات، ولا أن يُدار الملف الإغاثي بمنطق الضغط والمقايضة.
وبحسب تسريباتٍ إعلامية، رفض رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان مطلع الأسبوع مبادرة أميركية ،مصرية كانت تسعى لعقد لقاءٍ مباشر بينه وبين قائد المليشيا محمد حمدان دقلو “حميدتي” ود. عبدالله حمدوك، في محاولة لكسر الجمود السياسي وتمهيد الطريق لوقف إطلاق النار. اعتبر البرهان أن أي تفاوضٍ في هذه المرحلة يصب في مصلحة القوى الداعمة للفوضى، موجّهًا اتهاماتٍ صريحة لأبوظبي بالتورط في دعم الميليشيا الساعية لتفكيك الدولة.
في المقابل فقدت المبادرة أحد أهم عناصرها بعد انكشاف محدودية الدور الذي يمكن أن يؤديه عبدالله حمدوك، الذي يُنظر إليه داخليًا كوجهٍ متماهٍ مع الضغوط الخارجية، فاقدٍ للشرعية الشعبية، ورمزٍ للفشل في إدارة المرحلة الانتقالية ، فضلًا عن ارتباطه بمحاور إقليمية تتصدرها الإمارات.
أما ميليشيا الدعم السريع، فقد تراجعت فرص إدماجها سياسيًا بعد الجرائم المروّعة التي ارتكبتها في الفاشر وغيرها ، والتي ادانها المجتمع الدولي والولايات المتحدة نفسها، فأصبحت مرفوضةً شعبيًا وأخلاقيًا، ولا يمكن التعامل معها كفاعلٍ شرعيٍّ في مستقبل البلاد.
وبذلك تآكلت فرص الوساطات الدولية والهدن المصنوعة التي تحاول الجمع بين أطرافٍ فقدت شرعيتها الوطنية والأخلاقية. ويعيد هذا المشهد إلى الأذهان تجربة نيفاشا، حين استغل جون قرنق وقف إطلاق النار للتوسع الميداني، فردّ الجيش السوداني حينها بإلغاء الهدنة واستعادة المدن.
التاريخ يعيد نفسه: فالهدنة في غير وقتها قد تعني الهزيمة السياسية والعسكرية معًا. اليوم وبعد مرور أكثر من عامين ونصف على الحرب، ثبت أن الوسطاء الدوليين فشلوا في فرض أي هدنة فاعلة ذات قيمة .
فقد أُعلنت ما بين خمس إلى ست هدَن كبرى، أبرزها هدنة جدة “مايو 2023” لمدة سبعة أيام، وأخرى في يونيو “24 ساعة”، وثالثة يونيو الثانية “72 ساعة، وأخيرًا هدنة عيد الأضحى في أواخر يونيو، لكن جميعها انهارت خلال ساعات بسبب خروقات الميليشيا واستغلالها الهدن لإعادة التموضع والتسليح، في ظل انعدام آلية مراقبة ميدانية فعالة، فتحولت الهدن إلى بربقاندة إعلامية أكثر منها واقعية.
لذلك، إن كانت هناك نية حقيقية لإنقاذ السودان ووقف نزيف الدم، فإن البداية الجادة يجب أن تكون بإعادة هندسة الرباعية نفسها عبر استبعاد الإمارات وإدخال تركيا وقطر باعتبارهما دولتين تحظيان بثقةٍ لدى السودانيين، مع تحديد حدود الوساطة وفصل المسارات بوضوح.
المسار الأمني والإنساني يجب أن يُدار بمعزلٍ عن المسار السياسي ، لضمان وصول المساعدات للمدنيين دون استغلالها كورقة تفاوض. أما المسار الأمني، فيجب أن يخضع لآلية مراقبة سودانية ،إقليمية من دولٍ موثوقة مثل مصر وتركيا وقطر والسعودية، لضمان وقفٍ فعلي لإطلاق النار دون السماح بإعادة بناء الميليشيا.
والمسار السياسي، ينبغي أن يكون سودانيًا خالصًا، عبر حوارٍ داخليٍ شامل يضم القوى الوطنية والمدنية والنقابية لتصميم هيكل دستوري مرحلي يضع أسس اليوم التالي للحرب. فالأزمة في جوهرها سياسية قبل أن تكون عسكرية، وما لم تُعالج جذورها السياسية، فإن أي هدنة ستتحول إلى فرصة جديدة للغدر وإعادة التسلح.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف معنى “السلام” في السودان. السلام ليس وثيقة تفاهم في واشنطن ولا بيانًا من عاصمة تبحث عن نفوذ، بل قرارٌ وطنيٌّ ينبع من الداخل، يضع الإنسان قبل المصالح، والسيادة قبل التحالفات.
إن دماء السودانيين لا تحتمل أن تكون مادةً للمناورات أو اختبار النوايا، فالسودان اليوم بحاجة إلى وساطة ضميرٍ لا وساطة نفوذ، وإلى شجاعة سياسيةٍ تعترف بأن الطريق إلى السلام يبدأ من الداخل، لا من غرف الاجتماعات المعتمة.
من المؤسف ، وبحسب #وجه_الحقيقة، أصبحت بلادنا بين مسرحٍ يُدار في الخارج ودمٍ يُراق في الداخل. ويبقى السؤال معلقًا فوق المشهد كله: هل ما تزال الرباعية قادرةً على أن تكون وسيطًا، أم أصبحت جزءًا من المسرحية؟ الإجابة، للأسف، تُكتب الآن بلونٍ واحد… هو لون الأطماع ودماء السودان.
دمتم بخيرٍ وعافية.
الاثنين 3 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com